فصل: تفسير الآية رقم (76):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهكذا حذرهم المسيح عليه السلام فلم يحذروا، ووقعوا بعد وفاته عنهم فيما حذرهم من الوقوع فيه، وما أنذرهم عليه الحرمان من الجنة والانتهاء إلى النار.. ونسوا قول المسيح عليه السلام: {يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم}.
حيث أعلن لهم أنه هو وهم في العبودية سواء، لربوبية الله الواحد الذي ليس له من شركاء.
ويستوفي القرآن الحكم على سائر مقولاتهم الكافرة: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة}.
ويقرر الحقيقة التي تقوم عليها كل عقيدة جاء بها رسول من عند الله: {وما من إله إلا إله واحد}.
ويهددهم عاقبة الكفر الذي ينطقون به ويعتقدونه: {وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم}.
والكافرون هم الذين لا ينتهون عن هذه المقولات التي حكم عليها الله بالكفر الصراح.
ثم أردف التهديد والوعيد بالتحضيض والترغيب: {أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم}.
ليبقي لهم باب التوبة مفتوحًا؛ وليطمعهم في مغفرة الله ورحمته، قبل فوات الآوان..
ثم واجههم بالمنطق الواقعي القويم، لعله يرد فطرتهم إلى الإدراك السليم. مع التعجيب من أمرهم في الانصراف عن هذا المنطق بعد البيان والإيضاح: {ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون..}.
وأكل الطعام مسألة واقعية في حياة المسيح عليه السلام وأمه الصديقة. وهي خصيصة من خصائص الأحياء الحادثين، ودليل على بشرية المسيح وأمه- أو على ناسوته بتعبيرهم اللاهوتي- فأكل الطعام تلبية لحاجة جسدية لا مراء فيها. ولا يكون إلهًا من يحتاج إلى الطعام ليعيش. فالله حي بذاته، قائم بذاته، باق بذاته، لا يحتاج، ولا يدخل إلى ذاته سبحانه أو يخرج منها شيء حادث كالطعام..
ونظرًا لوضوح هذا المنطق الواقعي ونصاعته التي لا يجادل فيها إنسان يعقل، فإنه يعقب عليه باستنكار موقفهم والتعجيب من انصرافهم عن ذلك المنطق البين: {انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون}.
ولقد كانت هذه الحياة البشرية الواقعية للمسيح عليه السلام، مصدر تعب لمن أرادوا تأليهه- على الرغم من تعاليمه- فقد احتاجوا إلى كثير من الجدل والخلاف حول لاهوتية المسيح عليه السلام وناسوتيته- كما ذكرنا ذلك من قبل باختصار. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله تعالى: {وأمُّهُ صدِّيقةٌ} ابتداءٌ وخبرٌ، ولا محلَّ لهذه الجملة من الإعراب، و{صِدِّيقةٌ} تأنيثُ «صدِّيق»، وهو بناءُ مبالغةٍ كـ «فعَّال» و«فَعُول»، إلا أنه لا يعملُ عمل أمثلةِ المبالغة، فلا يقال: «زَيْدٌ شِرِّيبٌ العسلَ»؛ كما يقال: «شرَّابٌ العَسَل»، وإن كان القياس إعماله، وهل هو مِنْ «صَدَقَ» الثلاثيِّ، أو من «صَدَّقَ» مضعَّفًا؟ القياسُ يقتضي الأولَ، لأنَّ أمثلةَ المبالغةِ تطَّرِدُ من الثلاثي دون الرباعيِّ، فإنه لم يَجيء منه إلا القليلُ، وقال الزمخشري: «إنه من التَّصْديقِ»، وكذا ابنُ عطية، إلا أنَّه جعله محتملًا، وهذا واضحٌ لقوله: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبَّهَا} [التحريم: 12]، فقد صرَّح بالفعل المسند إليها مضعَّفًا، وعلى الأول معناه أنَّها كثيرةُ الصِّدْقِ.
وقوله تعالى: {كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام} لا محلَّ له؛ لأنه استئنافٌ وبيان لكونهما كسائر البشرِ في احتياجهما إلى ما يحتاج إليه كلُّ جِسْمٍ مُولدٍ، والإلهُ الحقُّ سبحانه وتعالى منزَّهٌ عن ذلك.
قوله تعالى: {كَيْفَ} منصوب بقوله: {نُبَيِّنُ} بعده، وتقدم ما فيه في قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ} [البقرة: 28] وغيره، ولا يجوز أن يكون معمولًا لما قبله؛ لأن له صدر الكلام، وهذه الجملة الاستفهامية في محلِّ نصبٍ؛ لأنها معلِّقةٌ لفعل قبلها، وقوله: {ثُمَّ انظر أنى يُؤْفَكُونَ} كالجملةِ قبلَها، و{أنَّى} بمعنى «كَيْفَ»، و{يُؤفَكُونَ} ناصبٌ لـ {أنَّى} ويُؤفَكُونَ: بمعنى يُصْرَفُونَ. اهـ. باختصار.

.تفسير الآية رقم (76):

قوله تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما نفى عنهما الصلاحية لرتبة الإلهية للذات، أتبعها نفي ذلك من حيث الصفات، فقال منكرًا مصرحًا بالإعراض عنهم إشارة إلى أنهم ليسوا أهلًا للإقبال عليهم: {قل} أي للنصارى أيها الرسول الأعظم {أتعبدون} ونبه على أن كل شيء دونه، وأنهم اتخذوهم وسيلة إليه بقوله: {من دون الله} ونبه بإثبات الاسم الأعظم على أن له جميع الكمال، وعبر عما عبدوه بأداة ما لا يعقل تنبيهًا على أنه سبحانه هو الذي أفاض عليه ما رفعه عن ذلك الحيز، ولو شاء لسلبه عنه فقال: {ما لا يملك لكم ضرًا} أي من نفسه فتخشوه {ولا نفعًا} أي فترجوه، ليكون لكم نوع عذر أو شبهة، ولا هو سميع يسمع كل ما يمكن سمعه بحيث يغيث المضطر إذا استغاث به في أي مكان كان ولا عليم يعلم كل ما يمكن علمه بحيث يعطي على حسب ذلك، وكل ما يملك من ذلك فبتمليك الله له كما ملككم من ذلك ما شاء.
ولما نفى عنه ما ذكر تصريحًا وتلويحًا، أثبته لنفسه المقدسة كذلك فقال: {والله} أي والحال أن الملك الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى والكمال كله {هو} أي خاصة {السميع العليم} وهو وحده الضار النافع، يسمع منكم هذا القول ويعلم هذا المعقد السيىء، وإنما قرن بالسميع العليم، دون البصير لإرادة التهديد لمن عبد غيره، لأن العبادة قول أو فعل، ومن الفعل ما محله القلب وهو الاعتقاد، ولا يدرك بالبصر بل بالعلم، والآية- كما ترى- من الاحتباك: دل بما أثبته لنفسه على سبيل القصر على نفيه في الجملة الأولى عن غيره، وبما نفاه في الجملة الأولى عن غيره على إثباته له- والله الموفق. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الخازن:

قوله تعالى: {قل أتعبدون من دون الله} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أي: قل يا محمد لهؤلاء النصارى أتعبدون من دون الله: {ما لا يملك لكم ضرًا ولا نفعًا} يعني لا يستطيع أن يضركم بمثل ما يضركم الله به من البلايا والمصائب في الأنفس والأموال ولا يقدر أن ينفعكم بمثل ما ينفعكم الله به من صحة الأبدان وسعة الأرزاق فإن الضار والنافع هو الله تعالى لا من تعبدون من دونه ومن لم يقدر على النفع والضر لا يكون إلهًا {والله هو السميع العليم} يعني أنه تعالى سميع لأقوالكم وكفركم عليهم بما في ضمائركم. اهـ.

.قال الفخر:

وهذا دليل آخر على فساد قول النصارى، وهو يحتمل أنواعًا من الحجة: أن اليهود كانوا يعادونه ويقصدونه بالسوء، فما قدر على الاضرار بهم، وكان أنصاره وصحابته يحبونه فما قدر على إيصال نفع من منافع الدنيا إليهم، والعاجز عن الاضرار والنفع كيف يعقل أن يكون إلها.
الثاني: أن مذهب النصارى أن اليهود صلبوه ومزقوا أضلاعه، ولما عطش وطلب الماء منهم صبوا الخل في منخريه، ومن كان في الضعف هكذا كيف يعقل أن يكون إلها.
الثالث: أن إله العالم يجب أن يكون غنيًا عن كل ما سواه، ويكون كل ما سواه محتاجًا إليه، فلو كان عيسى كذلك لامتنع كونه مشغولًا بعبادة الله تعالى، لأن الإله لا يعبد شيئًا، إنما العبد هو الذي يبعد الإله، ولما عرف بالتواتر كونه كان مواظبًا على الطاعات والعبادات علمنا أنه إنما كان يفعلها لكونه محتاجًا في تحصيل المنافع ودفع المضار إلى غيره، ومن كان كذلك كيف يقدر على إيصال المنافع إلى العباد ودفع المضار عنهم، وإذا كان كذلك كان عبدًا كسائر العبيد، وهذا هو عين الدليل الذي حكاه الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام حيث قال لأبيه {لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئًا} [مريم: 42].
ثم قال تعالى: {والله هُوَ السميع العليم} والمراد منه التهديد يعني سميع بكفرهم عليم بضمائرهم. اهـ.

.قال ابن عطية:

أمر الله نبيه أن يوقفهم على عبادتهم شخصًا من البشر لا يملك أن يضرهم ولا أن ينفعهم، و{من دون} ودون فلان وما جاء من هذه اللفظة فإنما تضاف إلى من ليس في النازلة التي فيها القول، وتفسيرها بغير أمر غير مطرد، و«الضَّر» بفتح الضاد المصدر، و«الضَّر» بضمها الاسم وهو عدم الخير، و{السميع} هنا إشارة إلى تحصيل أقوالهم والعليم بنياتهم، وقال بعض المفسرين: هاتان الصفتان منبهتان على قصور البشر، أي والله تعالى هو السميع العليم بالإطلاق لا عيسى ولا غيره، وهم مقرون أن عيسى قد كان مدة لا يسمع ولا يعلم، وقال نحوه مكي. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا} زيادة في البيان وإقامة حجة عليهم؛ أي أنتم مقرون أن عيسى كان جَنِينًا في بطن أُمه، لا يملك لأحد ضرًّا ولا نفعًا، وإذ أقررتم أن عيسى كان في حال من الأحوال لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم ولا ينفع ولا يضر، فكيف اتخذتموه إلها؟.
{والله هُوَ السميع العليم} أي لم يزل سميعًا عليمًا يملك الضرّ والنّفع، ومن كانت هذه صفته فهو الإله على الحقيقة. والله أعلم. اهـ.

.قال البيضاوي:

{قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَالا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا} يعني عيسى عليه الصلاة والسلام، وهو وإن ملك ذلك بتمليك الله سبحانه وتعالى إياه لا يملكه من ذاته ولا يملك مثل ما يضر الله تعالى به من البلايا والمصائب، وما ينفع به من الصحة والسعة وإنما قال ما نظرًا إلى ما هو عليه في ذاته توطئة لنفي القدرة عنه رأسًا، وتنبيهًا على أنه من هذا الجنس ومن كان له حقيقة تقبل المجانسة والمشاركة فبمعزل عن الألوهية، وإنما قدم الضر لأن التحرز عنه أهم من تحري النفع. {والله هُوَ السميع العليم} بالأقوال والعقائد فيجازي عليها إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر. اهـ.

.قال أبو حيان:

{قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرًّا ولا نفعًا} لما بين تعالى بدليل النقل والعقل انتفاء الإلهية عن عيسى، وكان قد توعدهم ثم استدعاهم للتوبة وطلب الغفران، أنكر عليهم ووبخهم من وجه آخر وهو عجزه وعدم اقتداره على دفع ضرر وجلب نفع، وأنّ مَن كان لا يدفع عن نفسه حريّ أن لا يدفع عنكم.
والخطاب للنصارى، نهاهم عن عبادة عيسى وغيره، وأن ما يعبدون من دون الله مساويهم في العجز وعدم القدرة.
والمعنى: ما لا يملك لكم إيصال خير ولا نفع.
قيل: وعبر بما تنبيهًا على أول أحواله، إذْ مرّت عليه أزمان حالة الحمل لا يوصف بالعقل فيها، ومن هذه صفته فكيف يكون إلهًا، أو لأنها مبهمة كما قال سيبويه.
وما: مبهمة تقع على كل شيء، أو أريد به ما عبد من دون الله ممن يعقل، وما لا يعقل.
وعبر بما تغليبًا لغير العاقل، إذ أكثر ما عبد من دون الله هو ما لا يعقل كالأصنام والأوثان، أو أريد النوع أي: النوع الذي لا يملك لكم ضرًا ولا نفعًا كقوله: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} أي النوع الطيب، ولما كان إشراكهم بالله تضمن القول والاعتقاد جاء الختم بقوله: {والله هو السميع العليم} أي السميع لأقوالكم، العليم باعتقادكم وما انطوت عليه نياتكم.
وفي الإخبار عنه بهاتين الصفتين تهديد ووعيد على ما يقولونه ويعتقدونه، وتضمنت الآية الإنكار عليهم حيث عبدوا من دونه من هو متصف بالعجز عن دفع ضرر أو جلب نفع.
قيل: ومن مرّت عليه مدد لا يسمع فيها ولا يعلم، وتركوا القادر على الإطلاق السميع للأصوات العليم بالنيات. اهـ.